فصل: الخبر عن مهلك عثمان بن يغمراسن وولاية ابنه أبي زيان وانتهاء الحصار من بعده إلى غايته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن منازلة بجاية وما دعا إليها:

قد ذكرنا أن المولى أبا زكريا الأوسط ابن المولى أبي إسحاق بن أبي حفص لحق بتلمسان عند فراره من بجاية أمام شيعة الدعي ابن أبي عمارة ونزل على عثمان بن يغمراسن خير نزل ثم هلك الدعى ابن أبي عمارة واستقل عمه الأمير أبو حفص بالخلافة وبعث إليه عثمان بن يغمراسن بطاعته على العادة وأوفد عليه وجوه قومه ودس الكثير من أهل بجاية إلى الأمير أبي زكريا يستحثونه للقدوم ويعدونه إسلام البلد إليه وفاوض عثمان بن يغمراسن في ذلك فأبي عليه وفاء بحق البيعة لعمه الخليفة بالحضرة فطوى عنه الخبر وتردد في النقض أياما ثم لحق بأحياء زغبة في مجالاتهم بالقفر ونزل على داود بن هلال بن عطاف وطلب عثمان بن يغمراسن إسلامه فأبى عليه وارتحل معه إلى أعمال بجاية ونزلوا على أحياء الزواودة كما قدمناه ثم استولى المولى أبو زكريا بعد ذلك على بجاية في خبر طويل ذكرناه فى أخباره واستحكمت القطيعة بينه وبين عثمان وكانت سببا لاستحكام الموالاة بين عثمان وبين الخليفة بتونس فلما زحف إليه عثمان سنة ست وثمانين وستمائة وتوغل في قاصية المشرق أعمل الرحلة إلى عمل بجاية ودوخ سائر أقطارها ثم نازلها بعد ذلك يروم كيدها بالاعتمال في مرضاة خليفته بتونس ويسر بذلك حسوا في ارتقاء فأناخ عليها بعساكره سبعا ثم أفرج عنها منقلبا إلى المغرب الأوسط فكان من فتح تافركنيت ومازونة ما قدمناه.

.الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين وشأن تلمسان في الحصار الطويل:

لما هلك يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين على السلم المنعقد بينه وبين بنى عبد الواد لشغله بالجهاد وقام بالأمر من بعده في قومه ابنه يوسف كبير ولده على حين اتبعهم أنفسهم شأن الجهاد واسفهم يغمراسن وابنه بممالأة الطاغبة وابن الأحمر فعقد يوسف بن يعقوب السلم مع الطاغية لحينه ونزل لابن الأحمر عن ثغور الأندلس التي كانت لهم وفرغ لحرب بني عبد الواد واستتب له ذلك لأربع من مهلك أبيه دلف إلى تلمسان سنة تسع وثمانين وستمائة ولاذ منه عثمان بالأسوار فنازلها صباحا وقطع شجرها ونصب عليها المجانيق والآلات ثم أحس بامتناعها فأفرج عنها وانكفأ راجعا وتقبل شأن بن يغمراسن مذهب أبيه في مداخلة ابن الأحمر والطاغية وأوفد رسله عليها فلم يغن ذلك عنه شيئا وكان مغراوة قد لحقوا بيوسف بن يعقوب بتلمسان فنالوا منه أعظم النيل فلما أفرجوا عن تلمسان نهض عثمان إلى بلادهم فدوخها وغلبهم عليها وأنزل ابنه أبا حمو بها كما قدمناه فلما كانت سنة خمس وتسعين وستمائة نهض يوسف بن يعقوب إلى حركته الثانية فنازل ندرومة ثم ارتحل عنها إلى ناحية وهران وأطاعه جبل كيدره وتاسكدلت رباط عبد الحميد بن الفقيه أبى زيد اليرناسي ثم كر راجعا إلى المغرب وخرج عثمان بن يغمراسن فأثخن فى تلك الجبال لطاعتهم عدوه واعتراضهم جنده واستباح رباط تاسكدلت ثم أغزاه يعقوب بن يوسف ثالثة سنة ست وتسعين وستمائة ثم رجع إلى المغرب ثم أغزاه رابعة سنة سبع وتسعين وستمائة فتأثل تلمسان وأحاط بها معسكره وشرعوا فى البناء ثم أفرج عنها لثلاثة أشهر ومر في طريقه بوجدة فأمر بتجديد بنائها وجمع الفعلة عليها واستعمل أخاه أبا يحيى بن يعقوب على ذلك وأقام لشأنه ولحق يوسف بالمغرب وكان بنو توجين قد نازلوا تلمسان مع يوسف بن يعقوب وتولى كبر ذلك منهم أولاد سلامة أمراء بنى يد للتين وأصحاب القلعة المنسوبة إليهم فلما أفرج عنها خرج إليهم عثمان بن يغمراسن فدوخ بلادهم وحاصرهم بالقلعة ونال منهم أضعاف ما نالوا منه وطال مغيبه في بلادهم فخالفه أبو يحيى بن يعقوب إلى ندرومة فاقتحمها عنوة بعسكره بمداخلة من قائدها زكريا بن يخلف بن المطغرى صاحب توقت فاستولى بنو مرين على ندرومة وتوقت وجاء يوسف بن يعقوب على أثرها فوافاهم ودلفوا جميعا إلى تلمسان وبلغ الخبر إلى عثمان بمكانه من حصار القلعة فطوى المراحل إلى تلمسان فسبق إليها يوسف بن يعقوب بعض يوم ثم أشرفت طلائع بني مرين عشي ذلك اليوم فأناخوا بها في شعبان سنة ثمان وتسعين وستمائة وأحاط العسكر بها من جميع جهاتها وضرب يوسف بن يعقوب عليها سياجا من الأسوار محيطا بها وفتح فيه أبوابا مداخل لحربها واختط لنزله إلى جانب الأسوار مدينة سماها المنصورة وأقام على ذلك سنين يغاديها القتال ويراوحها وسرح عسكره لافتتاح المغرب الأوسط وثغوره فملك بلاد مغراوة وبلاد توجين كما ذكرناه في أخباره وجثم هو بمكانه من حصار تلمسان لا يعدوها كالأسد الضاري على فريسته إلى أن هلك عثمان وهلك هو من بعده كما نذكره وإلى الله المصير سبحانه وتعالى لا رب غيره.

.الخبر عن مهلك عثمان بن يغمراسن وولاية ابنه أبي زيان وانتهاء الحصار من بعده إلى غايته:

لما أناخ يوسف بن يعقوب بعساكره على تلمسان انحجز بها عثمان وقومه واستسلموا والحصار آخذ بمخنقهم وهلك عثمان لخامسة السنين من حصارهم سنة ثلاث وسبعمائة وقام بالأمر من بعده ابنه أبو زيان محمد.
أخبرني شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم الايلي وكان في صباه قهرمان دارهم قال: هلك عثمان بن يغمراسن بالديماس وكان قد أعد لشربه لبنا فما أخذ منه الديماس وعطش دعا بالقدح فشرب اللبن ونام فلم يكن بأوشك أن فاضت نفسه وكنا نرى معشر الصنائع أنه داف فيه السم تفاديا من معرة غلب عدوهم إياهم قال: وجاء الخادم إلى قعيدة بيته زوجه بنت السلطان أبي اسحق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس وخبرها الخبر فجاءت ووقعت عليه واسترجعت وخيمت على الأبواب بسدادها ثم بعثت إلى أبيه محمد أبي زيان وموسى أبي حمو فعزتهما عن أبيهما وأحضرا مشيخة بني عبد الواد وعرضوا لهم بمرض السلطان فقال أحدهم مستفهما عن الشأن ومترجما عن القوم: السلطان معنا آنفا ولم يمتد الزمن لوقوع المرض فإن يكن هلك فخبرونا فقال له أبو حمو: وإذا هلك فما أنت صانع؟ فقال: إنما نخشى من مخالفتك وإلا فسلطاننا أخوك الأكبر أبو زيان فقام أبو حمو من مكانه وأكب على يد أخيه يقبلها وأعطاه صفقة يمينه واقتدى به المشيخة فانعقدت بيعته لوقته واشتمل بنو عبد الواد على سلطانهم واجتمعوا إليه وبرزوا إلى قتال عدوهم على العادة فكأن عثمان لم يمت.
وبلغ الخير إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم فتفجع له وعجب من صرامة قومه من بعده واستمر حصاره إياهم إلى ثمانية سنين وثلاثة أشهر من يوم نزوله نالهم فيها من الجهد ما لم ينله أمة من الأمم واضطروا إلى أكل الجيف والقطوط والفيران حتى أنهم زعموا أنهم أكلوا فيها أشلاء الموتى من الناس وخربوا السقف للوقود وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر المرافق بما تجاوز حدود العوائد وعجز وجدهم عنه فكان ثمن مكيال القمح الذي يسمونه البرشالة وبتبايعون به مقداره إثنا عشر رطلا ونصف مثقالين ونصفا من الذهب العين وثمن الشخص الواحد من البقر ستين مثقالا ومن الضان سبعة مثاقيل ونصفا وأثمان اللحم من الجيف الرطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال ومن الخيل بعشرة دراهم صغار من سكتهم تكون عشر المثقال والرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهما والهر الداجن بمثقال ونصف والكلب بمثله والفار بعشرة دراهم والحية بمثله والدجاجة بثلاثين درهما والبيض واحدة بستة دراهم والعصافير كذلك والأوقية من الزيت باثني عشر درهما ومن السمن بمثلها ومن الشحم بعشرين ومن الفول بمثلها ومن الملح بعشرة ومن الحطب كذلك والأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال ومن الخس بعشرين درهما ومن اللفت بخمسة عشر درهما والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهما والخيار بثلاثة أثمان الدينار والبطيخ بثلاثين درهما والحبة من التين والإجاص بدرهمين واستهلك الناس أموالهم وموجودهم وضاقت أحوالهم واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارها واتسعت خطة مدينة المنصور المشتدة عليها ورحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق واستبحرت في العمران بما لم تبلغه مدينة وخطب الملوك سلمه ووده ووفدت عليه رسل الموحدين وهداياهم من تونس وبجاية وكذلك رسل صاحب مصر والشام وهديتهم واعتز اعتزازا لا كفاء له كما يأتي في أخباره وهلك الجند حامية بني يغمراسن وقبيلتهم وأشرفوا على الهلاك فاعتزموا على الإلقاء باليد والخروج بهم للاستماتة فكيف الله لهم الصنيع الغريب ونفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف بن يعقوب على يد خصي من العبيد فأسخطته بعض النزعات الملوكية فاعتمده في كسر بيته ومخدع نومه وطعنه بخنجر قطع أمعاءه وأدرك فسيق إلى وزرائه فمزقوه أشلاء ولم يبق شي من بقايا عهدهم كما ذكرناه والأمر لله وحده وأذهب الله العناء عن آل زيان وقومهم وساكني مدينتهم كأنما نشروا من الأجداث وكتبوا لها في سكتهم ما أقرب فرج الله استغرابا لحادثتها.
وحدثني شيخنا محمد بن إبراهيم الآيلي قال: جلس السلطان أبو زيان صبيحة يوم الفرج وهو يوم الأربعاء في خلوة زوايا قصره واستدعى ابن حجاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء والمطامير المختومة؟ فقال له: إنما بقي عولة اليوم وغد فاستوصاه بكتمانها وبينما هم في ذلك دخل عليه أخوه أبو حمو فأخبروه فوجم لها وجلسوا سكوتا لا ينطقون وإذا بالخادم دعد قهرمانة القصر من وصائف بنت السلطان أبي اسحق وحظية أبيهم خرجت من القصر إليهم فوقفت وحيتهم تحيتها وقالت: تقول لكم حظايا قصركم وبنات زيان حرمكم ما لنا وللبقاء وقد أحيط بكم وأسف عدوكم لاتهامكم ولم يبق إلا فواق بكيئة لمصارعكم فأريحونا من معرة السبي وأريحوا فينا أنفسكم وقربوا إلى مهالكنا فالحياة في الذل عذاب والوجود بعدكم عدم فالتفت أبو حمو إلى أخيه وكان من الشفقة بمكان وقال: قد صدقتك الخبر فما تنظر بهن؟ فقال: يا موسى أرجئني ثلاثا لعل الله يجعل بعد عسر يسرا ولا تشاورني بعدها فيهن بل سرح اليهود والنصارى إلى قتلهن وتعال إلي نخرج مع قومنا إلى عدونا فنستميت ويقضي الله ما يشاء فغضب أبو حمو وأنكر الأرجاء في ذلك وقال: إنما نحن والله نتربص المعرة بهن وبأنفسنا وقام عنه مغضبا وجهش السلطان أبو زيان بالبكاء قال ابن حجاف: وأنا بمكاني بين يديه لا أملك متأخرا ولا متقدما إلى أن غلب عليه النوم فما راعني إلا حرسي الباب يشير إلي أن اذن السلطان بمكان رسول من معسكر بني مرين لسيدة القصر فلم أطق رجع جوابه إلا بإشارة وانتبه السلطان من خفيف إشارتنا فزعا فأذنته واستدعاه فلما وقف بين يديه قال له: إن يوسف بن يعقوب هلك الساعة وأنا رسول حافده أبي ثابت إليكم فاستبشر السلطان واستدعى أخاه وقومه حتى أبلغ الرسول رسالته بمسمع منهم وكانت إحدى المغربات في الأيام.
وكان من خبر هذه الرسالة إلى يعقوب بن يوسف لما هلك تطاول للأمر الأعياص من إخوته وولده وحفدته وتحيز أبو ثابت حافده إلى بني ورتاجن لخؤلة كانت له فيهم فاستجاش بهم واعصوصبوا عليه وبعث إلى أولاد عثمان بن يغمراسن أن يعطوه الآلة ويكونوا مفزعا له ومأمنا إن أخفق مسعاه على أنه إن تم أمره قوض عنهم معسكر بني مرين فعاقدوه عليها ووفي لهم لما تم أمره ونزل لهم عن جميع الأعمال التي كان يوسف بن يعقوب استولى عليها من بلادهم وجاء بجميع الكتائب التي أنزلها في ثغورهم وقفلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط كلها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.